من كان يعتقد يومًا أن نرى السّاحات الأثرية خالية من السّوّاح، وأن الطّائرات تصطف على المدرجات دون إقلاع أو هبوط، وأن تخلو شوارع العواصم الكبرى من المارّة، وأن يلزم أكثر من ثلثي سكّان الأرض منازلهم لأكثر من شهرين؟! هذا كلّه كان من الخيال ولكنّه قد حصل!
في بداية العام 2020، غزا الأرض عدوٌ خفيّ لا تراه العين وكان له تأثيرًا إجتماعيًا وإقتصاديًا كبيرًا لم تشهده الأرض منذ انتهاء الحرب العالمية الثّانية، إنّه الفيروس الذي بات معروفًا بـ"كوفيد-19"! لم نعتَد البقاء في المنزل قسرًا، خوفًا من التقاط عدوى هذا الفيروس القاتل الذي أرهب البشرية، ولكنّه كان الحلّ الأنجح لكبح انتشار هذا الوباء وللحفاظ على سلامتنا. بدأت أخبار الوباء تنتشر بسرعة، ومعها بدأ القلق يسيطر على عقولنا وهذا أمر طبيعي خاصّة عندما يتوقّف العقل البشري عن قدرته على استيعاب الواقع المخيف الذي فرض نفسه.
كان القلق سيّد الموقف، على الرغم من المحاولات العديدة التي قمت بها لمنع ذلك ولكنّه تملّكني طوال أسبوعين! إنّه القلق الممزوج بخوف على صحّة أهلي، على والدتي ووالدي الذي كان أصلًا يعاني من مشاكل في القلب والرّئتين. كنت قلقًا من أن يصل الوباء إلى مدينة الميناء حيث أسكن أنا وعائلتي. بدأت التّركيز جيّدًا على طرق الوقاية وكيفية الحماية من الوباء، وقد شرحت هذه الطّرق لأفراد عائلتي، علمًا بأنّي وكّلت نفسي بالذّهاب إلى السّوق لتبضّع الحاجيّات الأساسية من غذاء ودواء وقد منعت أحدًا غيري في المنزل من القيام بذلك. التّوقّف عن العمل في مشغلي كان عاملًا إضافيًا في زيادة القلق وتقلّب المزاج والانزعاج بعدما كان العمل يأخذ حيّزًا هامًّا في حياتي.
كان لا بدّ من التّغلّب على القلق، وإيجاد الطّرق السّليمة لذلك. فقد قرّرت كخطوة أولى وأساسية الامتناع عن متابعة الأخبار اليومية بطريقة مكثّفة، واكتفيت بالنّشرة المسائية على التّلفاز، فقد كانت الأخبار العامل الرّئيسي بزيادة منسوب القلق لديّ خاصّة وأنّها كانت تنتشر على وسائل التّواصل الإجتماعي دون التّأكّد من صحّة هذه الأخبار ومن المصدر المسؤول عن نشرها. وكخطوة ثانية، كان لا بدّ من إيجاد نشاطاتٍ مفيدةٍ للقيام بها من المنزل بهدف تمضية الوقت بطريقة صحيحة وفعّالة. بادئ الأمر، وضعت جدولًا بالهوايات التي كنت قد غفلت عن ممارستها بسبب نمط الحياة السّريع الذي كنت أعيشه. بدأت بتجميع الكتب والرّوايات التي كنت قد ابتعتها سابقًا ولم أحظَ بالفرصة والوقت الكافي لقراءتها، ووضعت جدولًا زمنيًّا للانتهاء من قراءتها كلّها.
ومن ضمن الهوايات التي كنت قد تجاهلتها عبر الوقت كانت هواية الطّبخ، هذه الهواية التي لم تنَل إعجاب والدتي التي لا ترغب بأن يدخل أحد إلى مملكتها والعبث بأغراضها! ولكنّني قد توصّلت لاتفاق معها يقضي باستخدام أدوات المطبخ تحت إشرافها الخاص، وبقبولي بالتعويض عن كل أداة تتعرّض لأي سوء إستخدام وخاصّة مقالي التّيفال! بدأت بصنع الحلويات، وقّررت البدء بالكيك، وكنت قد تواصلت مع إحدى الصّديقات المعروفة ببراعتها في تحضير الكيك على أنواعه وطلبت منها إرسال المقادير. بدأت بمزج المكونات كما نصحتني ووفقًا لطريقتها المثالية في فعل ذلك، وانتظرت فترة خبز الكيك كمن ينتظر زوجته وهي تضع مولودها الأوّل! وبعد انتظار 50 دقيقة، أصبح الكيك جاهزًا لإخراجه من الفرن. المنظر شهي والرّائحة تخرق القلب دون استئذان! الكل كان متحمّسًا لتذوّقه، انتظرنا حتى برد وقصصته وجهّزته للأكل. وهنا كانت المفاجأة الفاجعة! الكيك مالح! كانت صديقتي قد أخطأت بتفسير المقادير، وبدل ملعقة صغيرة من الملح قالت لي ملعقة كبيرة! وبدل أكله مع المربى، أكلته مع زبدة الفول السّوداني! وكانت هذه التجربة الأولى والأخيرة لي في المطبخ!
في اليوم التّالي، راودتني فكرة العودة إلى الزّراعة. جهّزت أحواض الزّهور البلاستيكية التي كانت مهملة وملأتها بالتّراب ونثرت بضعًا من بذور الزّهور التي كانت متبقية من العام الفائت. كما أني صنعت حوضًا خشبيًا كبيرًا وملأته بالتّراب وغرست فيه بضعًا من أغصان الزّهر التي أخذتها من أحواض الجيران. كنت متحمّسًا جدًا للزّراعة، خاصّة وأني أعشق الزّهور والمساحات الخضراء والطّبيعة. وبالصّدفة، اكتشفت مجموعة على الفيسبوك تدعى "إزرع" تضمّ مزارعين من ذوي الخبرات كانت تنشر معلومات قيّمة عن النّباتات وطرق زراعتها وكيفية الاهتمام بها. هذه المجموعة شجّعتني على استثمار الأرض المحيطة بمنزل أخي في منطقة الكورة، فقررت زراعة الخضروات وكل ما نستهلكه من خضار في المنزل. بدأت بحراستها وتحضيرها لزراعة الشّتول والبذور. ذهبت إلى المشتل وابتعت شتول الخيار والباذنجان والكوسا والطّماطم والفليفلة وغيرها وقمت بزرعها في الأرض كما أوصاني أحد الخبراء في المجموعة.
كان شعورًا جميلًا أن تعود للأرض، وأن تعود لهواياتك القديمة التي فقدتها بسبب نمط الحياة السّريع الذي فرض نفسه علينا. شعرت وكأن هذا الوباء كان إنذارًا للبشرية بأن تأخذ قسطًا من الرّاحة والعودة لأمور حياتية فقدناها. أنذرنا بالعودة للعائلة، بأن نمضي الوقت معًا، بأن نهتمّ أكثر بأهلنا وأفراد أسرتنا. كان لهذا الوباء جانبًا إيجابيًا على الرّغم من سلبيّاته العديدة، وهذه فلسفة الحياة وقانونها، لا شيء يخلو من الإيجابية مهما بدا عكس ذلك، وعلينا نحن أن نقرّر البحث عن ذلك.
غسان البكري، 32 سنة، مهندس معماري وحرفي نماذج سفن مصغرة، لبناني يعيش في الميناء شمال لبنان
Photo by Noah Buscher on Unsplash