READ THIS IN ENGLISH
استفاق العالم على خبر انتشار جائحة فيروس كورونا كوفيد-19، والذي سرعان ما صدم العالم بأسره بنتائجه المميتة. فتوقفت الحياة العامة للبشر في العالم بعد فرض الدول كافة الإجراءت الصحية والاستباقية القاسية. فجأة وجد الناس أنفسهم مسجونين في بيوتهم، منقطعين تماماً عن أعمالهم وأنشطتهم. وكان لبنان من أول الدول التي باشرت بتطبيق حالة التعبئة العامة وفرض الحجر المنزلي على السكان. لا أخفي أن حالة الحجر جديدة في حياتي، كما الكثيرين، فقد زادت من الوضع سوءاً. وخاصة أننا في لبنان نعاني من أزمة إقتصادية خانقة ونقص حاد في فرص العمل لتأمين المعيشة منذ مطلع العام 2020.
توقف عملي كمحام متدرج نهائيًا بسبب إغلاق جميع المحاكم والإدارات الرسمية. ازدادت حالتي النفسية سوءاً وتصاعدت موجات الغضب والتوتر والانفعال والإحباط . بدأ وقت الفراغ يزيد من ضجري وسخطي على هذه الحالة، فلجأت إلى مشاهدة الأفلام لأوقات طويلة، ولحسن الحظ وجدت الكثير منها على موقع نيتلفليكس. وشاهدت مسلسل (La Casa De Papel) الإسباني ومسلسل أمريكي شهير يحكي قصة محامي مبدع وماكر (Better Call Saul). إلا أنه بسبب الحجر المنزلي زاد استعمال خدمة شبكات الإنترنت، فأصبحت رديئة وبطيئة جداً مما أعاق عملية المشاهدة، الأمر الذي يسبب انزعاجاً أكبر لدي وقلقاً نفسياً، لأن الإنترنت هو المنفذ الوحيد وهو الآن سيء للغاية. ولكن أخيراً اضطررنا إلى دفع أكثر لتحسين خدمة الانترنت. وفي هذه الفترة تغيرت مواعيد نومي كثيراً، فقد كنت أسهر طول الليل ما بعد الساعة الثانية فجراً حتى السابعة صباحاً وأنا أشاهد الأفلام. فلا يمكن وصف الشعور السيء حيال الاستغراق في النوم طيلة النهار والاستيقاظ مع غروب الشمس. كنت أتحضّر للمساء يومياً لكي أسهر مع ثلاثة من الرفاق، حيث نقضي الليل نلعب (FIFA 2020, NBA 2020) على (PS4)، لأجل تضييع الوقت وتغيير نمط الحجر قليلاً. ولكن بعد مرور فترة قصيرة مللت من المشاهدة، وتحولت الى ممارسة هوايتي التقليدية "القراءة". أخذت كتاباً نصحني به أحد الأصدقاء وهو كتاب لجون بيركنز اسمه (اعترافات قاتل اقتصادي)، فقرأته كامل وقرأت بضعة روايات لجون غريشام. وذلك تفادياً لبعض المشاكل العائلية التي كانت تحدث بسبب الحجر أحياناً. كنت أشعر بالرتابة في كل شيء يتعلق بالحياة العائلية بسبب تمضية كل الوقت في المنزل، بحيث صارت بعض الأعباء والواجبات على عاتقي . فكل ما يريدون من احتياجات وطلبات كنت أنفذها وحدي بسبب غياب أبي وأخي الأصغر وانشغالهم في أعمال تجارة المواد الغذائية والدخان.
فكان أهم عمل منزلي قمت به هو الإعتناء بحديقة المنزل وترتيبها وإعادة زرع الورود، وتقليم الأشجار وتزيينها. هذه الأعمال أصبحت شغلي الشاغل كل يوم، حيث أستيقظ باكراً، وبكل همة ونشاط للبدء بعمل جديد. وكنت أقسّم الأعمال على مراحل لأجل إشغال نفسي كل يوم، إضافة إلى التأني جيداً في الأعمال وذلك لاستغراق أطول وقت ممكن خلال النهار. قررت أيضا إستغلال المساحات الخالية خلف المنزل، فقمت بحرث التربة وتنظيفها لأجل زراعة الخضروات الأساسية. وهذا القرار كان لعدة أسباب منها: ملء وقت الفراغ بالقيام بأشياء ممتعة ومفيدة والحصول على منتجات صحية وسليمة، وتوفير النقود بسبب الأزمة الاقتصادية وغلاء أسعار الخضار والمواد الغذائية. عندما بدأت بزرع الأرض، أرجعتني الحراثة والزراعة إلى حنين قد فارقني لسنوات، وشعرت بسعادة عارمة إفتقدتها منذ عشرة سنوات، عندما كنا قديماً نزرع ونأكل من أرضنا. وهنا أعترف أنه لولا الحجر المنزلي، لما كنت استعدت شغف الزراعة لأن الحياة ما قبل الكورونا لم تسمح لي بالتفكير بأن أزرع أرضي مجدداً وأستعملها. وما زاد متعتي أني أصبحت كل يوم مثابراً على الإهتمام بالشتول وسقايتها بانتظام ورشها بالمبيدات اللازمة، كما تعلمت إستعمال المواد العضوية الطبيعية لمساعدة النبات على النمو. لا أخفي أن هذه المهارات تعلمتها من جاري، وهو نازح سوري يمتلك خبرة كبيرة في مجال الزراعة، لأنه مزارع ويمتلك أراضي زراعية وبساتين مثمرة في سوريا. وبالفعل أتى هذا الحجر بالكثير من النفع عليّ.
وعلى المستوى الاجتماعي حافظت على البقاء في الحجر المنزلي لأقصى الدرجات، ولكن بنفس الوقت لم أنقطع قط عن التواصل مع الأصدقاء والأقارب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك من خلال الزيارات مع الالتزام بكل تدابير الوقاية والمحافظة على التباعد الإجتماعي وتجنب التجمعات والابتعاد نهائياً عن الاختلاط مع الناس في الأماكن المسموح فيها العمل. ورغم كل هذه الإجراءات، إلا أنني كنت في كثير من الأحيان اشتري أنا وواحد من الأصدقاء أو الأقارب مشروب كحولي ونتوجه الى السهل الزراعي في ضيعتي بر الياس، حيث المناظر الطبيعية جميلة والهواء نقي، وكنا نستمتع بالشراب وسماع الأغاني والموسيقى قرب النهر السائل بين الأراضي الزراعية. مطلع شهر نيسان اصطحبت ابن عمي وتوجهت منذ ساعات الصباح الأولى الى بستان جدي البعيد عن البلدة ، حيث غلينا القهوة على الحطب بين أشجار الصنوبر والشربين. وبعدها بدأنا التجوال والمشي في السهول الزراعية الواسعة الواعدة.
بظل إستمرار الحجر المنزلي أتمنى أن أقوم بعمل جديد ومختلف مثل العمل (Online)، والقيام بأشياء جديدة ممتعة لملأ الفراغ في الحياة . لأن الجلوس في المنزل طويلًا علمني تقديس العمل أكثر وإدراك قيمة الأعمال التي كنا نقوم بها قبل الحجر، مهما كانت صعبة أو مملة. وخاصة أني كنت أعاني من ضغط العمل سابقاً وصعوبات فيه، ولكني الآن أفتقد للرجوع إلى عملي وحياتي الطبيعية. وأخيرا أتمنى أن تكون نتائج هذه الجائحة خلاصًا للإنسان لكي يصلح أنظمته الصحية والاجتماعية والاقتصادي وليعيد ترتيب علاقته بالطبيعة والحيوان. وآمل أن تُستكشف العلاجات واللقاحات لهذه الجائحة لأجل مواصلة الحياة من جديد والإستمتاع بالطبيعة التي ارتاحت من شرور البشر ومن التلوث.
عمرو الميس ، 24 سنة ، خريج قانون ، يعيش في بر الياس